فصل: تفسير الآيات (66- 67):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (65):

{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)}
قلت: {إن}: استئناف، ومن قرأ بالفتح فعلى إسقاط لام العلة.
يقول الحق جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {ولا يحزنُكَ قولُهم} في جانب الربوبية، أو جانبك بالطعن والشتم والتهديد، فالعاقبة لك بالنصر والعز؛ فإن الله يُعز أولياءه، {إِنَّ العزَّة لله جميعاً} أي: إن الغلبة لله جميعاً، لا يملك غيرُه منها شيئاً، فهو يقهرهم وينصرك عليهم، {هو السميع} لأقوالهم، {العليم} بمكائدهم فيجازيهم عليها.
الإشارة: الداخل على الله منكور، فكل من رام الخصوصية فليعوِّلْ على الطعن والإنكار، وليتسلَّ بما تسلى به النبي المختار، ولينتظر العز والنصر من الواحد القهار، فإن الأمر كله بيده.

.تفسير الآيات (66- 67):

{أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)}
قلت: {وما يتبع}: يحتمل الاستفهام، فتكون منصوبة بيتبع، أي، أيُّ شيء يتبعون ما يتبعون؟ إلا الظن، ويحتمل النفي، أي: ما يتبع الذين يدعون الشركاء يقيناً؛ إن يتبعون إلا الظن، أو تكون {إن} تأكيداً لها، و{إلا الظن} إبطال لنفي ما.
يقول الحق جل جلاله: {ألا إن لله مَن في السماوات ومن في والأرض} من الملائكة والثقلين ملكاً وعبيداً، فلا يصلح أحد منهم للألوهية، وإذا كان هؤلاء الذين هم أشرف الممكنات لا تصلح للربوبية، فأحرى الجامدات التي يدعونها آلهة، {وما يتبعُ الذين يدعُون من دون الله شركاءَ} أي: أيُّ شيء يتبعون، تحقيراً لهم، أو ما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء يقيناً، {إن يتبعون إلا الظنَّ} وما سولت لهم أنفسهم، {وإن هم إلا يخرصُون}: يكذبون فيما ينسبون إلى الله، أو يحزرُون ويقدرون أنها شركاء تقديراً باطلاً، بل الواجب أن يعبدوا من عمت قدرته ونعمُه على خلقه، ولذلك قال: {هو الذي جعل لكم الليلَ لتسكنوا فيه} راحة لأبدانكم، {والنهارَ مبصراً} طلباً لمعاشكم، وفيه تنبيه على كمال قدرته وعظيم نعمته، ليدُلهم على تفرده باستحقاق العبادة {إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون} سماع تدبر واعتبار.
الإشارة: كل من ركن إلى شيء دون الله، محبة أو خوفاً أو طمعاً فيه، فقد أشرك مع الله، ولم يتبع إلا الظن والوهم، وفي الحِكَم: (ما قادك شيءٌ مثلُ الوهم، أنت حرٌ مما أنت آيس، وعبد لما أنت فيه طامع، فكيف يترك العبد سيده الذي بيده ملك السماوات والأرض، ويتعلق بعبد مثله حقير؟. يترك الملك الكبير ويتعلق بالعبد الصغير). هو الذي جعل ليل القبض لتسكنوا فيه عن التعلق بالغير، ونهار البسط لتبصروا في انتشاركم الحقائق العرفانية والأسرار الربانية، إن كنتم تسمعون به ومنه، فتنزهونه عما لا يليق به.

.تفسير الآيات (68- 70):

{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}
قلت: {عندكم}: متعلق بالاستقرار، و{من سلطان} فاعل به؛ لأن المجرور والظرف إذا نفى يرفع الفاعل بالاستقرار، و{متاع}: خبر، أي: ذلك متاع... إلخ.
يقول الحق جل جلاله: {قالوا} أي: المشركون، ومن تبعهم: {اتخذ الله ولداً} أي: تبنّاه كالملائكة وغيرهم، {سبحانه} أي: تنزيهاً له عما يقول الظالمون، فإن التبني لا يصح إلا ممن يتصور منه الولد، {هو الغني} عن كل شيء، مفتقر إليه كلُّ شيء، والولد مسبب عن الحاجة، والحق تعالى {له ما في السماوات وما في والأرض} ملكاً وعبيداً، فلا يفتقر إلى اتخاذ الولد، وهو الغني بالإطلاق، لا يحتاج إلى من يعينه، واجب الوجود لا يفتقر إلى من يخلفة في ملكه. {إن عندكم} أي: ما عندكم {من سلطان} أي: برهان {بهذا}، بل افتريتموه من عندكم، {أتقون على الله ما لا تعلمون}، وهو توبيخ وتقريع على اختلاقهم وجهلهم، وفيه دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة، وأن العقائد لابد فيها من قاطع، وأن التقليد فيها غير سائغ. قاله البيضاوي.
قلت: والتحقيق أن إيمان المقلّد صحيح، وأن تقليد الأنبياء والرسل والكتب السماوية صحيح مكتفٍ عن الدليل.
ثم هدد أهل الشرك فقال: {قل إن الذين يفترون على الله الكذبَ} باتخاذ الولد وإضافة الشريك إليه، {لا يُفلحون}: لا ينجون من النار، ولا يفوزون بالجنة، إنما ذلك الافتراء {متاع في الدنيا} يقيمون به رئاستهم في الكفر، فيتمتعون به قليلاً، أو لهم تمتع في الدنيا مدة أعمارهم، {ثم إلينا مرجعُهُم} بالموت، فيلقون الشقاء المؤبد، {ثم نُذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون}.
الإشارة: إظهار الكائنات من الغيب إلى الشهادة كلها على حد سواء في الاختراع والافتقار، ليس بعضها أقرب من بعض، وأما قوله: عليه الصلاة والسلام: «الخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ وَأَحَبُّ الخَلْقِِِ إلى اللَّهِ أَنفَعُهُم لِعِيَالِهِ». فمعناه أنهم في حفظه وكفالته مفتقرون إليه في إيصال المادة، كافتقار الولد إلى أبيه.
وأما قرب العبد من ربه بطاعته فمعناه قرب محبة ورضا، لا قرب مسافة أو نسب؛ إذ أوصاف العبودية غير مجانسة لأوصاف الربوبية، بل هي بعيدة منها مع شدة قربها، ولذلك قال في الحِكَم: (إلهي ما أقربَكَ مِنَّي وما أَبعَدَني عنك...) إلخ، وقد تشرق على العبد أنوار الربوبية فتكسوه حتى يغيب عن حسه ورسمه فلا يرى إلا أنوار ربه، فربما تغلبه الأنوار، فيدَّعي الاتحاد أو الحلول، وهو معذور عند أهل الباطن لسكره، وقد رفع التكليف عن السكران، فإذا صحى وبقي على دعواه قُتل شرعاً. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (71- 73):

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)}
قلت: {وشركاءكم}: مفعول معه، أو بفعل محذوف، أي: اعزموا أمركم وأجمعُوا شركاءكم ومن قرأ: {اجمَعُوا} بهمزة وصل فشركاءكم: معطوف، و{غمة}: خفيّا، وفي الحديث: «فَإنْ غُمَّ عَلَيكُمْ فَاقدَروا لَهُ».
يقول الحق جل جلاله: {واتل عليهم نبأ نوحٍٍ} أي: خبره مع قومه، قيل: اسمه عبد الغفار، وسمي نوحاً لكثرة نَوحه من هيبة ربه، {إذ قال لقومه يا قوم إن كان كَبُرَ} أي: عَظُمَ وشقَّ {عليكم مقامي} أي: كوني بين أظهركم، وإقامتي بينكم مدة مديدة أذكركم بالله، أو قيامي علّيكم لوعظكم، أو نفسي ووجودي بينكم، {وتذكيري} لكم {بآيات الله} أدعوكم بها إلى الله، {فعلى الله توكلتُ}: وثقت به، فلا أبالي ببعدكم عني وتخويفكم إياي، {فأجمعُوا أمرَكم} أي: اعزموا عليه، {وشركاءَكم} مع شركائكم، أو وأمر شركائكم، أو أجْمِعُوا أمركم واتَّفَِقُوا عليه وأجمِعُوا شركاءكم. والمعنى: أنه أمرهم بالعزم والإجماع على قصده، والسعي في إهلاكه، على أي وجه يمكنهم؛ لشدة ثقته بالله وعدم مبالاته بهم.
{ثم لا يكن أمرُكم} في قصد إهلاكي {عليكم غُمَّة}: مستوراً خفيَّاً، بل اجعلوه ظاهراً مكشوفاً تتمكنون فيه، لأن من يكتم أمراً ويخفيه لا يقدر أن يفعل ما يريد، أو ثم لا يكن حالكم عليكم غمَّاً، أي: لا يلحقكم غم إذا أهلكتموني وتخلصتم من ثقل مقامي وتذكيري. {ثم اقْضُوا} أي: انفذوا قضاءكم {إليَّ} فيما تريدون. وقرأ السري بن يَنْعَم: {أفضوا} بالفاء وقطع الهمزة، أي: انتهوا إليَّ بشرِّكم، {ولا تُنظرون}: ولا تمهلون.
{فإن توليتم}: أعرضتم عن تذكيري، {فما سألتُكم من أجرٍ} يوجب توليكم وإعراضكم لثقله عليكم. واتهامكم إياي لأجله، أو يفوتني إذا توليتم عني، {إنْ أجْرِيَ}: ما ثوابي على الدعوة والتذكير {إلا على اللهِ} لا تعلق لي بشيء دونه، آمنتم أو توليتم، {وأُمرتُ أن أكون من المسلمين} المنقادين لحكمه، لا أخالف أمره. ولا أرجو غيره.
{فكذّبوه}: فأصروا على تكذيبه بعد إلزامهم الحجة، وتبين ان توليهم ليس إلا لعنادهم وتمرُّدهم فلا جرَم حقت عليهم كلمة العذاب، فهلكوا بالغرق، {فنجيناه ومن} آمن {معه في الفلك}، وكانوا ثمانين، {وجعلناهم خلائفَ} عمروا الأرض بعد الهالكين وخلفوهم فيها، ولم يُعقب منهم إلا أولاد نوح عليه السلام، {وأغرقنا الذين كذَّبوا بآياتنا} بالطوفان، {فانظرْ كيف كان عاقبةُ المنذَرين}، تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن كذب الرسول، وتسلية له. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا يكون الرجل كامل اليقين حتى يسقط من قبله خوف المخلوقين، فلا يبالي بهم ولو أجمعوا على كيده، إذ ليس بيدهم شيء، وإنما أمْرهم بيد الله، ويقول لهم كما قال نوح عليه السلام: {فأجمعوا أمركم وشركاءكم}. وكما قال هود عليه السلام {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 55 56]. وفي الحديث: «لو اجْتَمَعَ الخَلْقُ كَلُهمْ عَلَى أن يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لم يَضُرُّوكَ إلا بِشَيءٍ قَدَّرَهُ الله عَلَيكَ، جَفْتِ الأقلامُ وطُويت الصُّحُفُ». وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: «لا يَكمُلُ إيمَانُ العَبدِ حتَّى يَكُون الناسُ عندَه كالأباعد». يعني لا يهابهم ولا يراقبهم. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (74):

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)}
قلت: {بما كذبوا به} ذكر هنا الرابط، وحذفه في سورة الأعراف، إشارة إلى جواز الأمرين، وإليه أشار في الألفية، بقوله:
كذَا الذي جُرَّ بما الموصُولُ جَر ** ك مُرَّ بالّذي مررْتُ فَهْو بَر

يقول الحق جل جلاله: {ثم بعثنا من بعده}: من بعد نوح عليه السلام {رسلاً}؛ كهود وصالح وإبراهيم وغيرهم {إلى قومهم}، كل رسول إلى قومه، {فجاؤوهم بالبينات}: بالمعجزات الواضحات المثبتة لدعواهم، {فما كانوا ليؤمنوا}؛ فما استقام لهم أن يؤمنوا لشدة شكيمتهم في الكفر، ولسبق شقاوتهم، فما آمنوا {بما كذَّبوا به من قبل} مجيئهم المعجزات، يعني أنهم طلبوا المعجزات ليؤمنوا، فلما جاءتهم استمروا على تكذيبهم، {كذلك نطبع على قلوب المعتدين} فلا تنفع فيهم معجزة ولا تذكير، وفيه دليل على أن الأفعال واقعة بقدرة الله، مع إثبات كسب العبد لقيام عالم الحكمة الذي هو رداء لتصرف القدرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما بعث الله في كل أمة رسولاً يذكرهم ويدعوهم إلى الله، بعث الله في كل عصر وليَّاً عارفاً، يدعو الخلق إلى معرفة الله وتوحيده الخاص، فمن سبقت له العناية آمن به من غير طلب آية، ومن سبق له الخذلان لا يصدق به ولو راى ألف برهان. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (75- 78):

{ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)}
الحق جل جلاله: {ثم بعثنا}، من بعد هؤلاء الرسل {موسى وهارون إلى فرعون ومَلَئه بأياتنا} التسع، {فاستكبروا} عن اتباعها، {وكانوا قوماً مجرمين} معتادين الإجرام، فلذلك تهاونوا برسالة ربهم، واجترؤوا على ردها، {فلما جاءهم الحقُّ من عندنا} وعرفوه، وهو بعثه موسى عليه السلام؛ لتظاهر المعجزات على يديه، القاهرة المزيحة للشك، {قالوا} من فرط تمردهم: {إنَّ هذا} الذي جئت به {لسحرٌ مبين}: ظاهر.
{قال} لهم {موسى للحقَّ لمَّا جاءكم} إنه سحر، فكيف يقدر السحرة على مثله؟ {أسحرٌ هذا}: أيتوهم أحد أن يكون هذا سحراً؟ {ولا يُفلح الساحرون} أي: لو كان سحراً لاضْمَحَلَّ، ولم يُبطل سحرَ السحرة، والعالم بأن الساحر لا يُفلح لا يستعمل السحر، فهذا كله من كلام موسى عليه السلام، أو من تمام قولهم؛ إن جعل قوله: {أسحرٌ هذا} محكياً لقولهم، كأنهم قالوا: أجئتنا بالسحر لتطلب به الفلاح ولا يفلح الساحرون، والأول أرجح.
{قالوا أجئتنا لِتَلْفتنا}؛ لتصرفنا {عما وجدنا عليه آباءنَا} من عبادة الأصنام، {وتكون لكما الكبرياءُ في الأرض}: الملك فيها، سمي كبرياء لاتَّصاف الملوك بالتكبر، {وما نحن لكما بمؤمنين}: بمصدّقين.
الإشارة: السحر على قسمين: سحر يسحر القلوب إلى حضرة الرحمن، وسحر يسحرها إلى حضرة الشيطان، فالسحر الذي يسحر إلى حضرة الرَّحمن: هو ما جاءت به الأنبياء والرسل، وقامت به الأولياء بعدهم من الأمور التي تقرب إلى حضرة، إما ما يتعلق بالظواهر، كتبيين الشرائع، وإمّا ما يتعلق بالبواطن، كتبيين الطرائق والأمور التي تُشرق بها أسرارُ الحقائق، وأما السحر الذي يسحر إلى حضرة الشيطان: فكل ما يشغل عن ذكر الرَّحمن، ولذلك قال عليه السلام: «اتَّقُوا الدُّنيا فإنَّها أَسْحَرُ مَنْ هَارُوت ومَارُوت».

.تفسير الآيات (79- 82):

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)}
قلت: {ما جئتم به} موصوله على من قرأ: {السحر} بلا استفهام، ومن قرأ بالاستفهام ف {ما} مبتدأ و{جئتم} خبرها، و{السحر}: بدل منه، أو خبر لمحذوف، أي: أهو السحر؟ أو مبتدأ حذف خبره، أي: السحر هو.
يقول الحق جل جلاله: {وقال فرعونُ} لما أراد معارضة موسى عليه السلام: {ائتوني بكلِّ ساحرٍ}، في قراءة الأخوين {سحَّار} {عليم}: حاذق في فنه، {فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون}، {فلما ألقَوا} حبالهم وعصيهم، فانقلبت حَيَّات في أعين الناس، يركب بعضها بعضاً، {قال} لهم {موسى ما جئتم به السحر} أي: الذي جئتم به هو السحر، لا ما سماه فرعون وقومه سحراً من معجزات العصا. وقرأ البصري: {آلسحر} أي: أيّ شيء جئتم به السحر هو؟ {إن الله سيُبْطلُه}: سيمحقه، أو سيظهر بطلانه، {إن الله لا يُصلح عملَ المفسدين} لا يثيبه ولا يديمُه، وفيه دليل على أن السحر تمويه لا حقيقة له، {ويُحقُّ الله الحقَّ بكلماته} السابقة الأزلية، أو بأوامره وقضاياه، {ولو كره المجرمون} ذلك.
الإشارة: الأكوان كلها عند اهل التحقيق شعوذة سحرية، خيالية كخيال السحر الذي يظهره المشعوذ، تظهر ثم تبطن، وليس في الوجود حقيقة إلا الواحد الأحد الفرد الصمد، فهي ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، وهي أيضاً أشبه شيء بالظلال، والظلال لا وجود لها من ذاتها، وإنما تابعة لشواخصها، ولذلك قالوا: ظلال الأشجار لا تعرق السفن عن التِّسْيار، فظلال الأكوان وأجرامها لا تعوق سفن الأفكار عن التسيار في بحار معاني الأسرار، بل تغيب عن ظلال حسها إلى فضاء شهود معانيها، فالعارف لا يحجبه عن الله شيء؛ لنفوذه إلى شهود أسرار الربوبية في كل شيء، والله تعالى أعلم.